علال الفاسي- حياة في خدمة الإسلام، الوحدة، وفلسطين

المؤلف: حسن أوريد10.31.2025
علال الفاسي- حياة في خدمة الإسلام، الوحدة، وفلسطين

في الثالث عشر من أيار/مايو عام 1974، استجاب الزعيم الراحل علال الفاسي لنداء ربه في العاصمة الرومانية بوخارست، وذلك أثناء اجتماعه مع رئيس البلاد آنذاك، نيكولاي تشاوشيسكو.

كان علال الفاسي، المغفور له، منهمكًا في الحديث مع الرئيس تشاوشيسكو حول القضية الفلسطينية المحورية، ساعيًا جاهدًا لإقناعه بفتح مكتب تمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في بوخارست. استجاب الرئيس الروماني على الفور لطلبه، ولكن بعد لحظات، شعر علال الفاسي بوعكة صحية مفاجئة، وطلب من الرئيس تشاوشيسكو أن يغادر المكتب، على أن يتولى نائبه، امحمد بوستة، مهمة استكمال العرض المتعلق بالوحدة الترابية للمغرب. وما هي إلا لحظات قليلة قضاها في قاعة مجاورة، حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.

قبل وفاته بأيام معدودة، شارك علال الفاسي في ندوة فكرية في مدينة مشهد الإيرانية، كانت موضوعها مكرسًا للإمام الطوسي، أحد أعلام الفكر الإسلامي. وقد رأى منظمو الندوة أن يسندوا إليه رئاسة هذه الندوة الهامة، وكان هذا الأمر حقًا مثيرًا للإعجاب، أن يترأس عالم سني ندوة ينظمها باحثون شيعة حول شخصية بارزة في علم الحديث الشيعي.

لعل من بين ما قرأت للرجل الراحل، جملة راسخة الأثر، وردت في مؤلفه القيم "دفاع عن الشريعة"، حيث ذكر عن نفسه، أن أسرته الكريمة قد قدمت من الأندلس، وعندما تراجعت راية الإسلام هناك، هاجرت إلى المغرب، وأنه لو قُدّر لراية الإسلام أن تنحسر عن المغرب، فسوف يرحل عنها أيضًا.

لقد أدرك منظمو الندوة أن علال الفاسي يتجاوز بتفكيره السامي أي انقسامات من شأنها أن تضعف قوة الإسلام ووحدته. وتحدث علال الفاسي بلسان العارف المتبحر في علم الكلام، وأسهب في ذكر فضائل ومآثر الطوسي، المولود في مدينة طوس الإيرانية، شأنه في ذلك شأن الإمام الغزالي، حجة الإسلام عند أهل السنة. واختتم حديثه بالتأكيد على أنه لا يوجد مبرر للفرقة بين السنة والشيعة، وأن الخلافات بينهما ذات طبيعة سياسية تعود إلى الماضي، وأنه يجب على السنة والشيعة أن يوحدوا صفوفهم للارتقاء بالحضارة الإسلامية. واعتبر، في صورة بلاغية مستوحاة من جابر بن حيان، أن الله قد خلق للأبواب مفتاحين، أحدهما في يد العرب والآخر في يد الفرس، فإذا تفرق العرب والفرس، ضاع المفتاحان وظلت الأبواب موصدة. ثم قام بزيارة إلى مدينة قُم الإيرانية، وأعرب عن دهشته وإعجابه بعلمائها ومعرفتهم الواسعة... كان ذلك قبل خمس سنوات من اندلاع الثورة الإيرانية، وكأنه كان يرى ببصيرته ما لم يكن يراه الآخرون.

بعد ذلك، سافر إلى "أبوظبي"، ومنها إلى الكويت، وهناك أجرى حوارًا صحفيًا مع جريدة "القبس". لم يكن يخطر ببال مُجري الحوار أنها ستكون الرسالة الأخيرة لعلال الفاسي، ولم يُنشر الحوار إلا بعد وفاته. ومما قاله علال الفاسي في هذا الحوار، الذي يدل على رؤيته الثاقبة وقدرته الاستشرافية، تقييمه العميق لدول الخليج، حيث أكد أنها حققت تقدمًا هائلًا، وأنها في أمس الحاجة إلى اتحاد أو وحدة "لا يهم شكلها بقدر ما يهم مضمونها"، وأنها مستهدفة، وعرضة لأطماع من الشرق والغرب. وأشار إلى أن الوحدة مهمة لدول الخليج، وهي أيضًا ضرورية لدول المغرب العربي، وأن وحدة الشعوب (المغربية بالمعنى العام) قائمة وراسخة، ولا تستطيع الأنظمة الحاكمة أن تعرقلها، وإنما يمكنها فقط أن تبطئ من وتيرة تحقيقها.

وأضاف بصراحة ووضوح أن "رؤساء دول المغرب العربي لا يفكرون أو يعملون بجدية لتحقيق الوحدة، على الرغم من أن شعوبهم تتوق إلى تحقيقها". وعن تداعيات حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، التي كانت آثارها لا تزال حاضرة، قال: "لو أن العرب احتفظوا بمشاعر التضامن والوحدة التي جمعتهم جميعًا خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول، لتحققت الوحدة العربية في وقت أقرب مما نتصور". أما عن القضية الفلسطينية، فقد كان يرى حلاً عادلاً يتيح للفلسطينيين حقهم الكامل في أرضهم، دون أي تنازلات.

ثم سافر إلى بوخارست، وكانت القضية الفلسطينية هي آخر ما نطق به.

إن تأثير علال الفاسي يتعدى حدود الحزب الذي أسسه مع مجموعة من الوطنيين، ألا وهو حزب الاستقلال، وحتى حدود وطنه المغرب، إذ إن تأثيره أوسع وأشمل. يشهد على ذلك عرب المشرق، وخاصة الفلسطينيين الذين يعتبرونه واحدًا منهم، ومن أوائل المنافحين عن القضية الفلسطينية في مؤتمر باندونغ. كما يعتبره علماء مسلمي أهل السنة من الشخصيات الإسلامية المرموقة، ويشهد على ذلك تقدير الأزهر الشريف وعلمائه له. ويحظى بتقدير خاص من علماء الشيعة، كما يتضح من تأبين الإمام موسى الصدر له، أو من إسناد علماء قُم رئاسة مؤتمر عن الإمام الطوسي إليه.

لعل من أجمل ما قرأت عنه، تلك العبارة المؤثرة التي وردت في كتابه "دفاع عن الشريعة"، حيث قال عن نفسه: "إن أسرته جاءت من الأندلس، وعندما أفلت شمس الإسلام بها، ارتحلت إلى المغرب، وإنه لو قدر لشمس الإسلام أن تغيب عن المغرب، لارتحل عنها". لم يكن ارتباطه بأرض معينة، بل بفكرة عظيمة، وكانت هذه الفكرة تتجاوز حدود المكان وتسمو على الزمان.

لا يمكن اختزال فكر رجل عظيم في مقال واحد. يعرف المغاربة كتابه الفريد "النقد الذاتي"، الذي كتبه في القاهرة بينما كان المغرب يعاني تحت نير الاستعمار. ويعرف له المغاربيون دوره البارز في مكتب المغرب العربي، حيث كان نائبًا للأمير عبد الكريم الخطابي، إلى جانب الحبيب بورقيبة، وكتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، الذي كتبه بتشجيع من ساطع الحصري.

بدأت مرحلة ثانية من فكر هذا الرجل العظيم في ستينيات القرن الماضي، حيث انصب اهتمامه على تجديد الفكر الإسلامي، ومن ثم ألّف كتابه "دفاع عن الشريعة"، وكتابه "مقاصد الشريعة"، وغيرهما من الكتب الهامة. ومرة أخرى، أستشهد بعبارة موجزة تلخص جوهر فكر هذا الرجل الموسوعي، وردت في مقال له عن الإمام مالك وفهمه للمذهب المالكي، حيث استشهد بمغربي (بمعناه العام) حج بيت الله الحرام والتقى بإمام الحرمين، وطلب منه النصيحة، فقال له: "قم بالفرائض، ولا تعادِ أحدًا". وليست المالكية، في فهم علال الفاسي، مجرد اجتهادات فقهية، بل هي رؤية حضارية تتجاوز أسباب الفرقة والخلاف.

لم تكن حياة هذا الرجل حياة هانئة. فقد تعرض للفتنة في شبابه، ونُفي إلى الغابون لمدة تسع سنوات بعيدًا عن أهله، في ظروف قاسية وفي حرارة استوائية لاهبة. في الغابون، حقق ديوان ابن هانئ، الذي كان يُعتبر متنبي المغرب. وعانى ظروفًا مادية صعبة في المنفى في القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، لولا كرم بعض المغاربة من منطقة سوس، الذين عرفوه بالروابط الوثيقة التي تربط المغرب بالصحراء. كما لم تكن أوضاعه السياسية جيدة بعد ثورة الضباط الأحرار، بسبب قربه من جماعة الإخوان المسلمين. وحتى في المغرب المستقل، عانى الأمرين ممن كانوا من أتباع الاستعمار، ومنهم من هددوه بالقتل، ولم يسلم في حياته من الافتراءات والشائعات المغرضة.

ظلت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في ضميره ووجدانه ونضاله، متابعًا لها عن كثب، مدافعًا عنها بكل ما أوتي من قوة، بالكتابة والمحاضرة، والانخراط السياسي الفعال.

ولعل ما يشهد على مكانته الرفيعة، ما قيل عنه في تأبينه من قبل شخصيات بارزة من مختلف الأطياف، بدءًا من شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، وصولًا إلى هاني الحسن ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، والإمام موسى الصدر من لبنان.

وأحسن ما نختتم به هذا المقال، ما قاله عنه شاعر العراق الكبير، محمد مهدي الجواهري:

 

علال لي نسب إليك عروقه      أقوى من الأرحام والأصهار

فجَّرت ينبوعًا خشِيتُ جفافه      وعهدتُه متدافعَ التيار

أنا من الدنيا على حافاتها           وعلى شفا جُرف بها منهار

من مشرق الدنيا لمغرب شمـْـــــسها ومن المحيط إلى رُبى ذي قار

دولٌ يُمزقها الخلاف وكلها      مخنوقة بخيوط ألف شعار

 

أو قول شاعر الجزائر الكبير مفدي زكريا:

فهل دعاك (جمال الدين) تُؤنسه          أم ذاب شوقًا إلى لقياك (إقبالُ)

أم لم يزل (عبده) يرجوك في لهف      فخفّ ركبُك واستهواك ترحالُ

أم (ابن باديس) والأهداف واحدة       قد هدْهدته إلى رؤياك آمال

علال إن كنت قد كفكفتَ أدمعًا           بكى عليك الحِمى والصحب والآل

ومن فلسطين أغلى ما نطقتَ به          مع الشهادة، إكبار وإجلال

 

وفي الليلة الحالكة، يُفتقد القمر البدر.

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة